تثير الآية الكريمة قضية مهمة وتؤشر مرضاً خطيراً يصيب اتباع الديانات والمشاريع الإلهية وهو ذوبانهم في شخصية القائد ذاته وليس في الرسالة التي حملها اليهم مما يؤدي إلى انهيارهم وانحرافهم وتشتتهم عند غيابه عنهم بموت أو قتل والآية الكريمة تؤسس لحقيقة يجب أن يعيها المؤمنون اتباع الرسالات الإلهية العظيمة في كل الأجيال وهي أن يكون ارتباطهم بالرسالة نفسها لأنها تمثل المبادئ التي أرادهاالمرسل تبارك وتعالى، والارتباط بالرسول وحامل الرسالة مهما عظمت مكانته لابد أن يكون على هذا الأساس وليس على أساس الشخصنة التي تؤدي الى الصنمية وعبادة الذات والذوبان فيها بمعزل عن المبدأ بحيث اذا مات أو قتل فكأنه ينتهي كل شيء.
وهذا من أخطر الأمراض التي تُصيب اتباع الرسالات والمشاريع الإلهية لأنه يؤدي إلى اندثار الرسالة وانحرافها وتفرق الاتباع عند موت القائد[2]، والصحيح أن يعتقدوا أن الرسالة باقية خالدة اما الرسول أو القائد عموماً فأنه معرَّض للموت أو القتل (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) (الزمر:30) وان الله تعالى يقيِّض لهذا الدين من يستمر بتبليغه وحفظه من التحريف والدّس وإقامته في حياة الأمة، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) (يا أيها الناس: ان الله تبارك اسمه وعزّ جنده لم يقبض نبياً قط حتى يكون له في أمته من يهدي بهداه ويقصد سيرته ويدلّ على معالم سبيل الحق الذي فرض الله عباده، ثم قرأ (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ…) )[3] .
فالمؤمنون الصادقون هم الذين ذابوا في المبدأ ــ وهو الدين ــ واستوعبوه وجعلوه منهج حياتهم فلا تؤثر عليهم غيبة الرسول والقادة عموماً بل هم لا يرون انه قد غاب عنهم لأنه حاضر بينهم بالمبادئ التي أسسها لهم والمنهج الذي وضعه لهم فهم ينظرون إلى الرسالة (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا) (إبراهيم: 24-25).
وهذه الآية دليل على صدقه (صلى الله عليه وآله) وان القرآن كتاب منزل من الله تعالى، لأن دعوته (صلى الله عليه وآله) لو كانت لمنفعة شخصية له لعمل على تكريس ذاته كما يفعل الطواغيت ((اذا متُّ ضمآناً فلا نزل القَطر)) بينما كان (صلى الله عليه وآله) يعمل على تذويب ذاته في المبدأ والشواهد على ذلك من سيرته الشريفة كثيرة كقوله (صلى الله عليه وآله) لمن ارتعدت فرائصه لما نظر إليه وهو يكلّمه (هوِّن عليك.. فأني لست بملك.. إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد)[4] .
والآية تحكي فصلاً من احداث معركة أُحد فأنه لما نودي في جيش المسلمين من بعض المشركين أو المتآمرين والمنافقين وذيول قريش بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد قتل انهزموا ((فجعل الرجل يقول لمن لقيه: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد قتل، النجاء النجاء ــ أي انجوا بأنفسكم ــ ))[5] ودخل اليأس على أكثر المسلمين والقوا سلاحهم وأيقنوا بأن كل شيء قد انتهى بحيث ((قال أهل المرض والارتياب والنفاق حين فرَّ الناس عن النبي (صلى الله عليه وآله) قد قتل محمد فالحقوا بدينكم الأول))[6]أي الشرك والجاهلية، وأخرج ابن جرير أيضاً ان بعضهم قال ((ليت لنا رسولاً إلى عبدالله بن ابي ــ زعيم المنافقين في المدينة ــ فيأخذ لنا أماناً من ابي سفيان، يا قوم ان محمداً قد قتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلونكم))[7] ومن كلامهم يظهر انهم من المهاجرين.
فالآية توبّخهم وتقول بأن محمداً (صلى الله عليه وآله) ليس الا رسول مبلغ عن الله تعالى ما فيه هدايتكم وصلاحكم ولا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً (إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) (آل عمران:154) وقد مضى من قبله رسل كُثُر على ذات المنهج والدعوة إلى الله تعالى، وكلهم مضوا إلى ربّهم بعد أن ادّوا ما عليهم من دون أن تموت المبادئ التي حملوها إلى أممهم فلماذا ــ والاستفهام هنا استنكاري ــ هذا الانقلاب منكم والنكوص والرجوع عما أنتم عليه من الحق الى جاهليتكم الأولى والتخلي عن مواصلة اعتناق الرسالة والمضي على ما مضى عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمجرد أن صيح بكم بموته أو قتله (صلى الله عليه وآله) وهذا يعني ان رواسب الجاهلية ما زالت فيكم (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (الحجرات : 14)، وأن ارتباطكم بالنبي (صلى الله عليه وآله) شخصي لاجل الدنيا وليس مبدأياً، وتعلّل آية أخرى هزيمتهم من المعركة بأنها انعكاس لهزيمتهم الروحية (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ) (آل عمران:155).
وتضيف الآية: واعلموا إن انقلابكم هذا لن يضرّ الله تعالى ولن يؤثر على استمرار الرسالة وخلودها لأن الله تعالى يأتي بمن يواصل حملها وحمايتها والانطلاق بها كما يشهد لذلك ما حصل في كل حالات الانقلاب التي وقعت فيها الأمة وإنما يخسر المنقلبون على اعقابهم لأن الدين جاء لإسعادهم في الدنيا والآخرة فاذا تخلّوا عنه فان حياتهم ستكون نكدة وشقية (وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) (إبراهيم : 8).
وقد ثبت في المعركة قلة من الافذاذ احاطوا برسول الله (صلى الله عليه وآله) يقونه بأنفسهم يتقدمهم أمير المؤمنين (عليه السلام) واستشهد أكثرهم رُوي عن ابن عباس (أن علياً (عليه السلام) كان يقول في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) إن الله عزوجل يقول (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) والله لا ننقلب على أعقابنا بعد اذ هدانا الله، ولئن مات أو قتل لأقاتلنّ على ما قاتل عليه حتى أموت، والله إني لاخوه وابن عمه ووارثه فمن أحق به مني)[8] .
وقد اعتبر الله تعالى ثباتهم على الرسالة والمبدأ شكراً فقال تعالى (وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) لأن الشكر على النعمة هو استعمالها فيما يريده المنعم واستحضار ما يقتضيه حق الربوبية وان ثباتهم وتمسكهم شكر عملي على نعمة الايمان.
روى[9] ابان بن عثمان عن ابي جعفر (عليه السلام) (أنه أصاب علياً يوم أُحُد ستون جراحة وروى الشيخ المفيد في الاختصاص أنها ثمانون تدخل الفتائل من موضعّ وتخرج من موضع بحيث خاف المداوي من معالجته لأنه كلما عالج جزءاً انفتق جزء آخر من بدنه فدخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) والمسلمون يعودونه وهو قرحة واحدة فجعل النبي (صلى الله عليه وآله) يمسحه بيده ويقول: ان رجلاً لقي هذا في الله فقد أبلى وأعذر وكان القرح الذي يمسحه رسول الله (صلى الله عليه وآله) يلتئم فقال علي (عليه السلام): الحمد لله اذ لم أفرّ ولم أوليّ الدبر فشكر الله تعالى له ذلك في موضعين من القرآن وهو قوله تعالى (وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران:144)، (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) (آل عمران:145) .
أقول: تصرّح الرواية بأن المقصود بالشاكرين هو أمير المؤمنين، ويمكن الاستدلال عليه بأن الثبات في المعركة كان شكراً حقيقة وقد ثبت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) جمع مبارك من أصحابه، ولو أريد ذكر موقفهم لكان الأنسب في التعبير أن يكون (وسيجزّي الله الذين شكروا) في إشارة إلى فعل محدد وحالة معينة وبمقتضى المقابلة مع الفعل (انقَلَبْتُمْ).
أما وصف الشاكرين فلا ينطبق الا على أمير المؤمنين (عليه السلام) لأنه يدل على ثبات الصفة عند الموصوف واستمرارها وهذا الوصف الثابت يلازم وصف المخلصين، لأنه اذا علمنا بأنه ما من شيء الا وهو نعمة من الله تعالى فقد ((بان ان الشكر المطلق هو ان لا يذكر العبد شيئاً ــ وهو نعمة ــ الا وذكر الله معه ولا يمس شيئاً ــ وهو نعمة ــ الا ويطيع الله فيه ــ لأن الطاعة حقيقة الشكر فهو دائم الشكر والذكرــ ، فقد تبيّن ان الشكر لا يتم الا مع الإخلاص لله سبحانه علماً وعملاً، فالشاكرون هم المخلصون لله، الذين لا مطمع للشيطان فيهم، ويظهر هذه الحقيقة مما حكاه الله تعالى عن ابليس، قال تعالى (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (ص:82-83) فلم يستثن من اغوائه أحداً الا المخلصين، وقال تعالى (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (الأعراف:16-17) فقد بدّل المخلصين بالشاكرين، وليس الا لأن الشاكرين هم المخلصون الذين لا مطمع للشيطان فيهم، لأن الشاكر متعلق بالله تعالى ولا مطمع له في سواه تبارك وتعالى وبذلك فقد سدَّ على الشيطان منافذ اغوائه وإضلاله فكان من المخلصين، واتحدّ الشاكر والمخلص في المصداق وان اختلفا في المفهوم. اما المنقلبون فهم الذين قال عنهم إبليس (وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (الأعراف: 17) ((وإن المقابلة بين الشاكر والمنقلب تشير إلى أن الثبات محصول الشكر وأن تثبيت كل فرد لموقعه الايماني يُعدُّ سبباً لارتقائه في درجات الشكر، ومن هنا يمكننا معرفة خطورة الشكر، وهذا الاهتمام هو الذي أدى الى التصريح بلفظ الجلالة في الآية بينما كان يمكن الاكتفاء باستعمال الضمير))[10] وكذا لم تذكر ماهية الجزاء للاشعار بعظمته وأنه يفوق التصور.
روى ابن هشام في السيرة ((انتهى أنس بن النضر ــ عم انس بن مالك وبه سمي ــ إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد القوا بأيديهم، فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: فماذا تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل))[11] .
والظاهر ان الانقلاب في الآية هو الرجوع عن الدين الى الكفر وليس مجرد الفرار من المعركة كما في آيات آخر كقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) (آل عمران:149) وقوله تعالى (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) (البقرة : 143)، وقد وصفت آية أخرى هذه الحالة بأنها كانت بسبب عدم استقرار الايمان في قلوبهم عودة إلى الجاهلية تعرضوا لها بسبب وفاة أو قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال تعالى (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) (آل عمران:154).
هذا هو حال الكثير من الصحابة الذين كانوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم أحد، قال ابن هشام في بيان ما نزل من القرآن في معركة أحد بعد أن ذكر هذه الآية (( (أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ) رجعتم عن دينكم كفاراً كما كنتم، وتركتم جهاد عدوكم ، وكتاب الله، وما خلف نبيّه (صلى الله عليه وآله) من دينه معكم وعندكم، وقد تبيّن لكم فيما جاءكم به أعني أنه ميت ومفارقكم (وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ) أي يرجع عن دينه (فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا) أي ليس ينقص ذلك عز الله تعالى ولا ملكه ولا سلطانه ولا قدرته، (وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) أي من اطاعه وعمل بأمره))[12] .
والآية وان نزلت في حادثة وقعت الا انها تتحدث عن حالة انقلابية مستقبلية أيضاً شارك فيها جمع ممن انقلب على عقبيه يوم أحُد ولم تستطع السنوات التالية من مصاحبة رسول الله (صلى الله عليه وآله) من القضاء على ادران الجاهلية في قلوبهم، فكان ما وقع يوم أحُد تدريباً وإعداداً للمسلمين لكي يتحملوا تلك الصدمة الحقيقية ويتخذوا الموقف الحازم الذي أمرهم الله تعالى به، فيحذرهم من الانقلاب على الاعقاب عند موت أو قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله) والا فان المسلمين فرّوا من المعارك في مرات عديدة وان آياتٍ أخر ذكرت الفرار من دون هذه التعابير كقوله تعالى في هزيمتهم يوم حنين (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ) (التوبة:25) .
بل يخبرهم أَن رسول الله (صلى الله عليه وآله) اذا مات أو قتل فعلاً في الزمان الآتي فأنكم ستنقلبون على اعقابكم وترجعون عن طاعة ما أمر به ربكم، والفرق ان ما وقع يوم أحُد من بعضهم كان ارتداداً عن الدين كما صرحوا في كلماتهم اما انقلابهم عند موت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فعلاً فهو في الدين وليس عن الدين والكفر به كفر بالنعمة التي أنعم الله تعالى بها بإكمال الدين بالولاية لأمير المؤمنين (عليه السلام)، واستعمال صيغة الماضي (انقَلَبْتُمْ) لافادة التحقق القطعي كما في الحكاية عن أحداث يوم القيامة بصيغة الماضي، وقد حذرهم النبي (صلى الله عليه وآله) من هذا الانقلاب في يوم الغدير حين أمر المسلمين ببيعته ولياً لأمورهم بعده، فقال (صلى الله عليه وآله) (معاشر الناس أنذركم اني رسول الله إليكم قد خلت من قبلي الرسل، أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ، الا وان علياً هو الموصوف بالصبر والشكر، ثم من بعده ولدي من صلبه)[13] .
وقال في الحديث المشهور لدى الفريقين (ستفترق أمتي بعدي ثلاث وسبعين فرقة)[14] .
وقد وقع هذا الانقلاب باتفاقهم على اقصاء من نصبه رسول الله (صلى الله عليه وآله) إماماً وخليفة من بعده، وأشار أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى هذا الرجوع على الاعقاب بقوله في خطبة الوسيلة (حتى إذا دعا الله عز وجل نبيه ورفعه اليه، لم يك ذلك بعده إلا كلمحة من خفقة، أو وميض من برقة، الى أن رجعوا على الأعقاب ، وانتكصوا على الأدبار، وطلبوا بالأوتار، وأظهروا الكتائب، وردموا الباب، وفلوا الديار، وغيروا آثار رسول الله، ورغبوا عن أحكامه، وبعدوا من أنواره، واستبدلوا بمستخلفه بديلا، اتخذوه وكانوا ظالمين، وزعموا أن من اختاروا من آل أبي قحافة أولى بمقام رسول الله ممن اختار رسول الله لمقامه، وأن مهاجر آل أبي قحافة خيرٌ من المهاجري الأنصاري الرباني ناموس هاشم بن عبد مناف)[15].
وقال (عليه السلام) في حديث طويل (وليس كل من أقرَّ أيضاً من أهل القبلة بالشهادتين كان مؤمناً، ان المنافقين كانوا يشهدون ان لا اله الا الله وان محمداً رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويدفعون أهل رسول الله (صلى الله عليه وآله) بما عهد به من دين الله وعزائمه وبراهين نبوته إلى وصيه، ويضمرون من الكراهية لذلك والنقض لما أبرمه منه عند امكان الأمر لهم فيه بما قد بيّنه الله لنبيه (صلى الله عليه وآله) بقوله (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ) )[16] .
وطبّقت السيدة الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) الآية الكريمة على فعلهم فقالت في خطبتها لما سلبوها فدكاً وانتهكوا حرمة دارها (أتقولون مات محمد (صلى الله عليه وآله) فخطب جليل استوسع وهنه واستنهر فتقه وانفتق رتقه وأظلمت الأرض لغيبته وكسفت الشمس والقمر وانتثرت النجوم لمصيبته وأكدت الآمال وخشعت الجبال وأضيع الحريم وأزيلت الحرمة عند مماته فتلك والله النازلة الكبرى والمصيبة العظمى لا مثلها نازلة ولا بائقة عاجلة أعلن بها كتاب الله جل ثناؤه في أفنيتكم وفي ممساكم ومصبحكم يهتف في أفنيتكم هتافا وصراخا وتلاوة وإلحانا ولقبله ما حل بأنبياء الله ورسله حكم فصل وقضاء حتم : (وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) )[17].
وقوله تعالى (فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) مطلق ينفي كل اشكال ومراتب الاضرار والتأثير، فهذا وعد من الله تعالى بأن كل اشكال الانقلابات لا تضرّ الله شيئاً لذا نرى ولاية أهل البيت (عليهم السلام) بقيت ثابتة وظل عَلمُهم خفاقاً رغم كل الظلم والاضطهاد والقتل والتعذيب الذي انزله الطغاة بهم وبشيعتهم (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف : 128) (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام : 45).